الصيام الحقيقي في رمضان
الحمد لله الذي جعل الصيام جَُنة من العذاب و كفارة للآثام ، نحمده كما يحب لجلاله فهو ذو الجلال و الإكرام ، و أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من قال ربي الله ثم استقام ، و أشهد أن سيدنا محمد عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و صحبه أجمعين ...
لقد كان المسلمون في العصور الأولى يجعلون من شهر رمضان موسما تتجسم فيه معاني الأخوة و الرحمة و تكثر فيه العبادة و الطاعة و الإحسان ، في رمضان يشبع الجائع و يأخذ المحروم من المحظوظ حقه بلا دعاية و لا رياء ، بل بدافع من الإيمان و الرغبة فيما عند الله ، فلا يكاد يهل هلال رمضان حتى ترى المسلمين يستعدون للمسابقة في ميدان البر و الإحسان كل بما عنده و كل على قدر طاقته .
عندما تولى أحمد بن طولون حكم مصر أقام مأدبة للأغنياء في قصره في أول شهر رمضان ، و لما انتهوا من تناول الطعام قال لهم : [ إنني لم أجمعكم حول هذه الموائد إلا لأذكركم بالبر و الفقراء في رمضان ، فأنا أعلم أنكم لستم في حاجة للطعام و الشراب و إني آمركم أن تفتحوا الآن بيوتكم و تمدوا فيها الموائد و تهيئوها ليهنأ بها الفقير المحروم ]
و من يرجع بصره اليوم يرى أن طغيان المادة في هذا الزمان أنسى الناس هذا الواجب العظيم ، و هذه الخصائص الفريدة التي يختص بها رمضان عن غيره ، فصار الناس في هذا العصر أبناء المادة لهم ولع شديد بالشهوات ، يظنون أن حالة التنعم إلى دوام و لا يعلمون أن هذا من غلبة الشيطان عليهم فاذا ذكروا لا يذكرون و إذا وعظوا لا يتعظون ، و لا يذكرون يوم يعض الظالم على يديه .
إن كثيرا من الناس اليوم قد حرموا أنفسهم من الطعام و الشراب ، و ملذات الحياة في رمضان و ليس لهم من وراء ذلك إلا الجوع و العطش و الحرمان ، كيف يكون صائما ذلك التاجر الذي اكتوى الناس بنار أسعاره ما رحم الأرملة و لا المسكين ؟ ان كان الله قد جعل هذا الشهر شهر رحمة و مغفرة فقد صيروه هم شهر عذاب و نقمة .... أهكذا يكون خلق الصائم في رمضان ؟ كان من الأولى و الأجدر أن تنخفض الأسعار في هذا الشهر العظيم رحمة بالفقراء و لطفا بالمساكين و ابتغاء لرضوان الله عز وجل لا يكتب رحمته الا للمتراحمين المتعاونين المتآزرين ، قال صلى الله عليه و سلم : [ ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ] و قال أيضا : [ الراحمون يرحمهم الرحمان ] .
كيف يكون صائما من يقضي ليله و نهاره في هتك أعراض الناس و نهش لحومهم و القيل و القال ؟ فقد جاء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ الصيام جُنة ما لم يخرقها ، قيل بما يخرقها يا رسول الله ؟ قال : بكذب أو غيبة فاحذروا الكذب و لو في مزاح و احذروا في أن يدع طعامه و شرابه ]
و قوله صلى الله عليه و سلم : [ من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه ]
فكفوا عباد الله في هذا الشهر و غيره ، كفوا ألسنتكم عن الكذب و الغيبة و الشكرامة و كفوا سائر جوارحكم عن ما حرم الله :
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب
حتى عصى على ربه في شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما
فلا تصيره أيضا شهر عصيان
إن التقرب لله بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات ، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب لله بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض و يتقرب إلى الله بالنوافل ، فما معنى أن تصوم المرأة عن الطعام و الشراب ثم تخرج في رمضان متبرجة كاشفة عن مفاتنها لا تعرف حياء و لا للشهر حرمة ؟ و ما معنى أن يصوم البعض عن الطعام و الشراب و هم يرتكبون الكبائر من سرقة و سب و شتم و إيذاء لعباد الله ؟
فاتقوا الله أيها المسلمون و لا تضيعوا صيامكم فتكونوا غدا يوم القيامة من المفلسين